سوّد سيف العصري[1] كتاباً أسماه (القول التمام بإثبات التفويض مذهباً للسلف الكرام)، وقد طالعتُ الكتاب فإذا هو حافل بالمزالق والمغالطات والتلبيسات - كما سيأتي الإشارة إلى بعضها - وقدّم له نخبة من الأساتذة الأشياخ، وعلى رأسهم الشيخ د. يوسف القرضاوي.
• عندما تطالع مقدمة د.القرضاوي فإن وَهْم التشبيه والتجسيم عالق في ذهنية القرضاوي منذ كان صغيراً في ابتدائية الأزهر حتى ساعة كتابة المقدمة (1428هـ)، وهذا الوهم الجاثم هو امتداد لما كان عليه أسلافه (الأشاعرة) كما في جوهرة اللقاني والنسفية وموقف الإيجي ونحوها.. إذ انقدح في أذهانهم أن في إثبات أكثر الصفات الإلهية تمثيلاً وتشبيهاً، فدفعوه بالتأويل الفاسد أو التفويض والتضليل.
وليت الشيخ القرضاوي -وهو في معترك المنايا - أن يتحرر من هذا التقليد للأشاعرة والتسويغ لمقالة الداعية الكبير حسن البنا - رحمه الله - في تصوير مذهب التفويض (التجهيل)، لاسيما وأن الأشاعرة يوجبون "النظر"، ويجعلونه أول واجب، فغاية الإيمان هو العلم بحدوث العالم وقدم الصانع!! ويجعلون المقلد في التوحيد كافراً كما في الأقوال التي قررها البيجوري في شرح جوهرة اللقاني، والتي عَوّل عليها القرضاوي في دراسته ومقدمته.
• وقد حكى القرضاوي انفتاحه الكبير على مذهب السلف - أو مدرسة ابن تيمية وابن القيم على حدّ تعبيره - لكن هذا الانفتاح المرتقب بعد هذا العمر المديد سرعان ما تقشع بعد هذه الدعوى بسطور! فالقرضاوي يقول: " قال ابن تيمية بصريح العبارة... لله جنب ولكن ليس كجنبنا".
وهذه كذبة صلعاء على شيخ الإسلام, فإنه قد قال - رحمه الله -: "لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنباً, نظير جنب الإنسان, وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56], فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له, بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة كبيت الله, وناقة الله.. والتفريط ليس في شيء من صفات الله عز وجل. بل يراد به أنه فرّط في جهته وفي حقه...". الجواب الصحيح 3/145, 146 باختصار (طبعة المدني).
وهذا ما قرره الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بشر (ص184), وكذا الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة 1/250.
ولو تكرم الشيخ القرضاوي بالتفاتة عابرة على تراث ابن تيمية لما أوقع نفسه في هذه العثرة.
• الانفتاح "المنتظر" من الشيخ القرضاوي مع أهل السنة والجماعة قد صيّره بعيد المنال, لما عَرّض بأهل السنة ولمزهم بالإرهاب الفكري, وأن انتشار هذه المدرسة (السلفية) لأجل قوة سياسية أو اقتصادية.
ولو نطق بهذا اللمز غير القرضاوي من الأغمار وأشباههم لكان أمراً مكروراً! لكن أن يصدر هذا الطعن من أشهر الشخصيات الإسلامية في العالم, وأبرز علماء العصر! فهذا مردود شرعاً وعقلاً وفطرة وواقعاً.
أفيقال: إن ظهور مذهب السلف في أرض الكنانة مثلاً لأجل نصرة النظام المصري لمذهب السلف الصالح!! إن مذهب السلف الصالح يكابد أنواعاً من المكر الكبّار - خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - ومع ذلك فمذهب السلف له الظهور والقبول والانتشار, إذ هو في غاية الاطراد والوضوح, وهو المذهب الذي تقبله العقول والفِطَر, والقائم على الرسوخ واليقين والتسليم للشرع والاستدلال به.
وكما قال ابن تيمية: "وإذا تأمل اللبيب الفاضل تبيّن له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد, والصحة والاطراد, وأنه مقتضى المعقول الصريح, والمنقول الصحيح, وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أُفك خارجاً عن موجب العقل والسمع, مخالفاً للفطرة والسمع.." الفتاوى 5/212, 213.
والمأمول من الشيخ القرضاوي أن يفتح قلبه ويشرح صدره لإخوانه أهل السنة والجماعة, وأن يطالع تراثهم بموضوعية وبلا مقررات سابقة, فالشيخ القرضاوي قد خاض غمار حياة حافلة بالمكتسبات والابتلاءات والتجارب, وأعقب ذلك مرونة ظاهرة, وانفتاحاً في غاية الاتساع, كما في مواقفه من الأنظمة والغرب.. وإخوان القرضاوي وأبناؤه من أهل السنة والجماعة هم أحق وأولى بهذا الانفتاح والتواصل!
• ويقرر الشيخ القرضاوي أن منهج القرآن عدم تجميع نصوص الصفات في نسق واحد, إذ قد يوهم التركيب والتجسيم - على حدّ دعواه -.
وهكذا فإن "كابوس" التشبيه قد استحوذ على القرضاوي, فظن أن هذا الإثبات يعدّ تجسيماً.. وما أجمل ما قاله أبو الحسن الأشعري لأبي علي الجبائي (المعتزلي): كأن القرآن قد نزل بلغة جبّاء! والقرضاوي يريد أن يجعل القرآن وفق "مقررات" الأزهر وعقائد البنا! وكما قال ابن تيمية: المعتزلي يجعل القرآن معتزلياً, والرافضي يجعله رافضياً.. وهكذا.
وهل إذا تمّ التفريق - بناء على قاعدة القرضاوي - يزول محذور الشبيه؟!
ها أنتم تزعمون التمثيل والتشبيه في أكثر نصوص الصفات وهي مفرّقة في القرآن ومع ذلك أعملتم التأويل المذموم, والتفويض والتجهيل!
وها هو صاحبكم البيهقي - رحمه الله - جمع ما يتعلق بالصفات في كتابه الشهير (الأسماء والصفات) ثم أعقبها بتأويلات المتكلمين كابن فورك وأشباهه والمقصود أن محذور (الجمع) و (التفريق) ليس مؤثراً عندكم, فأنتم عازمون وماضون في التأويل أو التجهيل سواء اجتمعت النصوص أو افترقت!
وبالجملة فهذه القاعدة المتهافتة من "جراب" القرضاوي فلا دليل عليها, وليس له سلف في ذلك.
والمقصود أن حشد نصوص الصفات الثابتة والصريحة يحقق إقراراً بمعانيها, وفهماً لدلالتها, وهذا لا يروق لأرباب التفويض والتأويل! وكذا فإن نَفَس التفويض قد أحكم قبضته على القرضاوي حتى أنه أورد نقلاً جلياً في إثبات الصفات لعثمان الدارمي, فزعم أنه تفويض!!
ومن تقريرات السلف الصالح في بيان أن معاني الصفات معلومة وليس مجرد مذهب ابن تيمية وابن القيم كما يظن القرضاوي, ماقاله شيخ الإسلام الصابوني (ت449هـ): "ينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها, فيعظموا الله حق عظمته, ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً طلب أن يعرف أسمه وكنيته, واسم أبيه وجدّه, وسأل عن صغير أمره وكبيره, فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها" الحجة في بيان المحجة 1/22.
• وأما مقدمة وهبي غاوجي، فهي تحكي إفلاس المذكور, فما جدوى مقدمة يكتبها "الشيخ العلامة. "وهي مجرد استلال نقول من مريده سيف (العصر)؟! فهل (القول التمام) ألحق بغاوجي عيّاً فاقتصر على الترداد والنقل الحرفي عن التلميذ, اللهم إلا أن غاوجي زعم قائلاً: "لقد أخطأ رجل من القرن السابع تصور التفويض؟!"
وهل بلغ بغاوجي الحنق على ابن تيمية فلا يذكر اسمه! وإنما "رجل في القرن السابع!!" فهل هذا من الإلغاز والتعمية والذي يتفق مع مذهب القوم وما فيه من تلوّن وتجهيل!
أم هو الاحتقار والازدراء لإمام الدنيا, وناصر السنة, وواراث علم النبوة شيخ الإسلام ابن تيمية؟! ومع ذلك فغاوجي ينقل عن السبكي, ما ظاهرة تكفير ابن تيمية, ويؤيده! كما في كتابه أركان الإيمان ص298 (انظر منهج الأشاعرة في العقيدة ص135).فهل يعي أهل التفويض هذا الأمر الفطري الضروري؟ أم ينكرون ما يجدون في أنفسهم من إقرار ومعرفة بمعاني الصفات؟!